فصل: بصيرة في الحديث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال المراغي:

سورة التحريم:
هي مدنية.
وآيها ثنتا عشرة.
نزلت بعد الحجرات.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) أن سورة الطلاق في حسن معاشرة النساء والقيام بحقوقهن، وهذه السورة فيما حصل منهن مع النبي صلى الله عليه وسلم تعليما لأمته أن يحذروا أمر النساء، وأن يعاملوهن بسياسة اللين كما عاملهن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن ينصحوهن نصححا مؤثّرا.
(2) أن كلتيهما افتتحا بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) أن تلك في خصام نساء الأمة، وهذه في خصومة نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أفردن بالذكر تعظيما لمكانتهن.
بِسْمِ الله الرّحْمنِ الرّحِيمِ.
[سورة التحريم: الآيات 1- 5]
{يا أيُّها النّبِيُّ لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك تبْتغِي مرْضات أزْواجِك والله غفُورٌ رحِيمٌ (1)}

.شرح المفردات:

{تحرّم}: أي تمتنع، {ما أحل الله لك}: هو العسل، {تبتغى}: أي تطلب. {فرض}: أي شرع وبيّن كما جاء في قوله: {سُورةٌ أنْزلْناها وفرضْناها}، و{تحلة أيمانكم}: أي تحليلها بالكفارة، وتحليلة القسم تستعمل على وجهين:
(1) أحدهما تحليله بالكفارة كما في الآية.
(2) ثانيهما بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر كما جاء في الحديث: «لن يلج النار إلا تحلة القسم» أي إلا زمنا يسيرا.
{مولاكم}: أي وليكم وناصركم، {بعض أزواجه}: هي حفصة على المشهور، {نبأت به}: أي أخبرت عائشة به، {وأظهره}: أي أطلعه وأعلمه قول حفصة لعائشة، {عرّف}: أي أعلمها ببعض الحديث الذي أفشته، {وأعرض عن بعض}: أي لم يخبرها به، {إن تتوبا}: أي حفصة وعائشة، {صغت قلوبكما}: أي عدلت ومالت إلى ما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم وإجلال، {وإن تظاهرا عليه}: أي تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول، {مولاه}: اى وليه وناصره، {ظهير}: أي ظهراء معاونون، وأنصار مساعدون، {مسلمات}: أي خاضعات لله بالطاعة، {مؤمنات}: أي مصدّقات بتوحيد الله، مخلصات، {قانتات}: أي مواظبات على الطاعة، {تائبات}: أي مقلعات عن الذنوب، {عابدات}: أي متعبدات متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، {سائحات}. أي صائمات، وسمى الصائم بذلك من حيث إن السائح لا زاد معه، ولا يزال ممسكا حتى يجد الطعام كالصائم لا يزال كذلك حتى يجيء وقت الإفطار.

.المعنى الجملي:

روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، وكان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فلتقل له: إنى أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير (صمغ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط يكون بالحجاز)، فقال لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا».
وقد كانت عائشة وحفصة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال إن التي دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وحرّم على نفسه العسل أمامها هي حفصة فأخبرت عائشة بذلك، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتمها الخبر كما استكتمها ما أسرّها به من الحديث الذي يسرّها ويسر عائشة، أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتى من بعدي، فالسر كان لها بأمرين:
(1) تحريم العسل الذي كان يبغيه عند زينب.
(2) أمر الخلافة لأبويهما من بعده.

.الإيضاح:

{يا أيُّها النّبِيُّ لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك تبْتغِي مرْضات أزْواجِك} أي يا أيها النبي لم تمتنع عن شرب العسل الذي أحله الله لك، تلتمس بذلك رضا أزواجك؟
وهذا عتاب من الله على فعله ذلك، لأنه لم يكن عن باعث مرضى، بل كان طلبا لمرضاة الأزواج.
و في هذا تنبيه إلى أن ما صدر منه لم يكن مما ينبغى لمقامه الشريف أن يفعله.
و في ندائه صلى الله عليه وسلم بيا أيها النبي في مفتتح العتاب حسن تلطف، وتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام، على نحو ما جاء في قوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم}.
{والله غفُورٌ رحِيمٌ} أي والله غفور لذنوب التائبين من عباده، وقد غفر لك امتناعك عما أحله لك، رحيم بهم أن يعاقبهم على ما تابوا منه من الذنوب.
وإنما عاتبه على الامتناع عن الحلال وهو مباح سواء كان مع اليمين أو بدونه، تعظيما لقدره الشريف، وإجلالا لمنصبه أن يراعى مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله به، وإيماء إلى أن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي يعدّ كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك.
{قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ} أي قد شرع لكم تحليل أيمانكم بالكفارة عنها، فعليك أن تكفر عن يمينك.
وقد روى «أنه عليه الصلاة والسلام كفر عن يمينه فأعتق رقبة (عبدا أو أمة)».
{والله موْلاكُمْ} أي والله متولى أموركم بنصركم على أعدائكم، ومسهل لكم سبل الفلاح في دنياكم وآخرتكم، ومنير لكم طريق الهداية إلى ما فيه سعادتكم في معاشكم ومعادكم.
{وهُو الْعلِيمُ الْحكِيمُ} أي وهو العليم بما يصلحكم فيشرعه لكم، الحكيم في تدبير أموركم، فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا وفق ما تقتضيه المصلحة.
ثم ساق ما هو كالدليل على علمه فقال: {وإِذْ أسرّ النّبِيُّ إِلى بعْضِ أزْواجِهِ حديثا فلمّا نبّأتْ بِهِ وأظْهرهُ الله عليْهِ عرّف بعْضهُ وأعْرض عنْ بعْضٍ} أي واذكر حين أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفصة أنه كان يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، وقال لن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا، فلما أخبرت عائشة بما استكتمها من السر، وأطلعه الله على ما دار بين حفصة وعائشة بما كان قد طلب من حفصة أن تكتمه- أخبر حفصة ببعض الحديث الذي أفشته وهو قوله لها: «كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود»، وأعرض عن بعض الحديث وهو قوله «وقد حلفت»، فلم يخبرها به تكرما منه لما فيه من مزيد خجلتها، ولأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يود أن يشاع عنه اهتمامه بمرضاة أزواجه إلى حد امتناعه عن تناول ما أحل الله له.
{فلمّا نبّأها بِهِ قالتْ منْ أنْبأك هذا قال نبّأنِي الْعلِيمُ الْخبِيرُ} أي فلما أخبر حفصة بما دار بينها وبين عائشة من الحديث، قالت من أنبأك بهذا؟ ظنّا منها أن عائشة قد فضحتها بإخبارها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخبرني ربى العليم بالسر والنجوى الخبير بما في الأرض والسماء لا يخفى عليه شيء فيهما.
و في الآية إيماء إلى أمور اجتماعية هامة:
(1) أنه لا مانع من الإباحة بالأسرار إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق.
(2) أنه يجب على من استكتم الحديث أن يكتمه.
(3) أنه يحسن التلطّف مع الزوجات في العتب والإعراض عن الاستقصاء في الذنب. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

.بصيرة في الحديث:

وقد ورد في القرآن على خمسة أوجه: الأوّل بمعنى: الأخبار والآثار.
{أتُحدِّثُونهُم بِما فتح الله عليْكُمْ} أي أتخبرونهم.
الثّانى بمعنى: القول والكلام {ومنْ أصْدقُ مِن الله حديثا} أي قولا.
الثّالث بمعنى: القرآن العظيم {فلْيأْتُواْ بِحديث مِّثْلِهِ} {فبِأيِّ حديث بعْدهُ يُؤْمِنُون}.
الرّابع بمعنى: القِصص ذات العِبرِ {الله نزّل أحْسن الْحديث} أي أحسن القِصصِ.
الخامس بمعنى: العِبر في حديث الكفّار والفجّار {فجعلْناهُمْ أحادِيث} قال الشاعر:
كلُّ العلومِ سوى القرآن مشْغلة ** أو الأحاديث من دون الدواوينِ

فبالقرآن أُقيمت كلُّ مائلةٍ ** وبالحديث استقامتْ دولةُ الدين

العلم ما كان فيه قال حدثنا ** وما سواه فوسواس الشياطين

وكلُّ كلام يبلغ الإِنسان من جهة السّمع أو الوحى في يقظته أو منامه يقال له: حديث.
قال تعالى: {وإِذ أسرّ النّبِيُّ إِلى بعْضِ أزْواجِهِ حديثا} وقوله: {وعلّمْتنِي مِن تأْوِيلِ الأحادِيثِ} أي ما يحدّث به الإِنسان في نومه.
والحديث أيضا: الطرىّ من الثمار.
ورجل حدُث: حسن الحديث.
ويقال لكلِّ ما قرب عهده: حديث، فعالا كان أو مقالا، قال تعالى: {حتّى أُحْدِث لك مِنْهُ ذِكْرا}.
والحُدُوث: كون الشئ بعد أن لم يكن، عرضا كان أو جوهرا، وإِحداثه: إِيجاده.
وإِحداث الجوهر ليس إِلاّ لله تعالى.
والمحدث: ما أُوجد بعد أن لم يكن، وذلك إِمّا في ذاته أو إِحداثه عند ما حصل عنده نحو: أحدثت مِلكا.
ورجل حدث وحديث السّنِّ بمعنى، وحِدْث النساء بالكسر أي محادثهنّ وتحادثوا وصاروا أحدوثة.
والحادثة: النّازلة العارضة. اهـ.

.بصيرة في عرف:

عرفه يعرِفه معْرِفة وعِرْفانا فهو عارِف وعرِيف وعرُوفة: علِمهُ.
وقرأ الكسائى: {عرّف بعْضهُ} مخفّفة أي جازى حفصة ببعض ما فعلتْ.
ومنه: أعرِف للمحسن والمسيءِ، أي لا يخفى علىّ ذلك ولا مقابلته بما يوافقه.
والمعرفة: إِدراك الشيءِ بتفكُّر وتدبّر لأثره، وهو أخصّ من العلم، ويقال: فلان يعرف الله، ولا يقال: يعلم الله متعدّيا إِلى مفعول واحد، لمّا كان معرفة البشر لله هي بتدبّر آثاره دون إِدراك ذاته.
ويقال: الله يعلم كذا ولا يقال: يعرف كذا، لمّا كان المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصّل إِليه بتفكُّر وتدبّر.
وفد ورد في القرآن لفظ المعرفة ولفظ العلم.
فلفظ المعرفة كقوله تعالى: {مما عرفُواْ مِن الْحقِّ}، {الّذِين آتيْناهُمُ الْكِتاب يعْرِفُونهُ كما يعْرِفُون أبْناءهُمْ}.
وأمّا لفظ العلم فهو أكثر وأوسع إِطلاقا كقوله تعالى: {فاعْلمْ أنّهُ لا اله إِلاّ الله}، {شهِد الله أنّهُ لا اله إِلاّ هُو والْملائِكةُ وأُوْلُواْ الْعِلْمِ قآئِما بِالْقِسْطِ}، وقوله: {والّذِين آتيْناهُمُ الْكِتاب يعْلمُون أنّهُ مُنزّلٌ مِّن رّبِّك بِالْحقِّ}، وقوله: {وقُل رّبِّ زِدْنِي عِلْما}، وقوله: {أفمن يعْلمُ أنّمآ أُنزِل إِليْك مِن ربِّك الْحقُّ كمنْ هُو أعْمى}، وقوله: {قُلْ هلْ يسْتوِي الّذِين يعْلمُون والّذِين لا يعْلمُون}، وقوله: {وقال الّذِين أُوتُواْ الْعِلْم والإِيمان لقدْ لبِثْتُمْ فِي كِتابِ الله إِلى يوْمِ الْبعْثِ فهذا يوْمُ الْبعْثِ} {وقال الّذِين أُوتُواْ الْعِلْم ويْلكُمْ ثوابُ الله خيْرٌ}، وقوله: {وتِلْك الأمْثالُ نضْرِبُها للنّاسِ وما يعْقِلُهآ إِلاّ الْعالِمُون}، وقوله: {قال الّذِي عِندهُ عِلْمٌ مِّن الْكِتابِ}، وقوله: {اعْلمُواْ أنّ الله يُحْيِي الأرْض بعْد موْتِها}، وقوله: {واعْلمُواْ أنّ الله بِكُلِّ شيْءٍ علِيمٌ}، وقوله: {اعْلمُواْ أنّما الْحياةُ الدُّنْيا لعِبٌ ولهْوٌ}، {واتّقُواْ الله واعْلمُواْ أنّكُمْ مُلاقُوهُ} {فاعْلمُواْ أنّمآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} وغير ذلك من الآيات.
واختار الله لنفسه اسم العلم وما يتصرّف منه كالعالِم والعلِيم والعلاّم، وعلِم ويعْلم، وأخبر أن له عِلما دون لفظ المعرفة، ومعلوم أنّ الاسم الذي اختاره لنفسه أكمل نوعى المشارِك له في معناه.
وإِنما جاء لفظ المعرفة في مؤمنى أهل الكتاب خاصّة كقوله: {ذلك بِأنّ مِنْهُمْ قِسِّيسِين ورُهْبانا وأنّهُمْ لا يسْتكْبِرُون وإِذا سمِعُواْ مآ أُنزِل إِلى الرّسُولِ ترى أعْيُنهُمْ تفِيضُ مِن الدّمْعِ مما عرفُواْ مِن الْحقِّ}، وقوله: {الّذِين آتيْناهُمُ الْكِتاب يعْرِفُونهُ كما يعْرِفُون أبْناءهُمْ} وقد تقدّمت الآيتان.
وإِنّ الطائفة المتصوّفة-نفع الله بهم- يُرجّحون المعرفة على العلم، وكثير منهم لا يرفع بالعلم رأسا، ويراه قاطعا وحجابا دون المعرفة، وأهل الاستقامة منهم أشدّ الناس وصِيّة للمريدين بالعلم.
وعندهم أنه لا يكون ولِىٌّ لله كامل الولاية من غير أولى العلم أبدا، فما اتّخذ الله ولا يتّخذ ولِيّا جاهلا.
فالجهل رأْس كلّ بدعة وضلال ونقص، والعلم أصل كلّ خير وهدى.
والفرق بين المعرفة والعلم من وجوه لفظا ومعنى:
أمّا اللفظ: ففعل المعرفة يقع على مفعول واحد، تقول: عرفت الدّيار وعرفت زيدا، قال تعالى: {فعرفهُمْ وهُمْ لهُ مُنكِرُون}، وقال: {يعْرِفُونهُ كما يعْرِفُون أبْناءهُمْ}.
وفعل العلم يقتضى مفعولين، كقوله تعالى: {فإِنْ علِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِناتٍ}، وإِذا وقع على مفعول كان بمعنى المعرفة كقوله تعالى: {وآخرِين مِن دُونِهِمْ لا تعْلمُونهُمُ الله يعْلمُهُمْ}.
وأمّا الفرق من جهة المعنى فمن وجوه:
أحدها: أنّ المعرفة تتعلّق بذات الشيءِ والعلم يتعلّق بأحواله، فتقول: عرفت أباك وعلِمته صالِحا، ولذلك جاء الأمر في القرآن بالعلم دون المعرفة كقوله تعالى: {فاعْلمْ أنّهُ لا اله إِلاّ الله}، وقوله: {واعْلمُواْ أنّ الله شدِيدُ الْعِقابِ}، {فاعْلمُواْ أنّمآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله}.
فالمعرفة: تصوّر صورة الشيءِ ومثالِه العلمىّ في النّفس، والعلم: حضور أحواله وصفاته ونسبتها إِليه.
فالمعرفة: نسبة التصوّر، والعلم: نسبة التصديق.
الثانى: أنّ المعرفة في الغالب تكون لِما غاب عن القلب بعد إدراكِه، فإذا أدركه قيل: عرفه، أو تكون لِما وُصف له بصفات قامت في نفسه فإِذا رآه وعلم أنّه الموصوف بها قيل: عرفه، قال تعالى: {ويوْم يحْشُرُهُمْ كأن لّمْ يلْبثُواْ إِلاّ ساعة مِّن النّهارِ يتعارفُون بيْنهُمْ}، وقال: {وجاء إِخْوةُ يُوسُف فدخلُواْ عليْهِ فعرفهُمْ وهُمْ لهُ مُنكِرُون}، وفي الحديث: «إِنّ الله سبحانه يقول لآخر أهل الجنّة دخولا: أتعرف الزمان الذي كنت فيه فيقول: نعم. فيقول: تمنّ. فيتمنّى على ربّه».
وقال تعالى: {وكانُواْ مِن قبْلُ يسْتفْتِحُون على الّذِين كفرُواْ فلمّا جاءهُمْ مّا عرفُواْ كفرُواْ بِهِ}.
فالمعرفة نسبة الذِكر النفسىّ وهو حضور ما كان غائبا عن الذاكر، ولهذا كان ضدّها الإِنكار وضدّ العلم الجهل، قال تعالى: {يعْرِفُون نِعْمت الله ثُمّ يُنكِرُونها} ويقال: عرف الحقّ فأقرّ به، وعرفه فأنكره.
الوجه الثالث: أنّ المعرفة تفيد تمييز المعروف عن غيره، والعلم يفيد تمييز ما يوصف به عن غيره.
وهذا الفرق غير الأوّل، فإِنّ ذلك يرجع إِلى إِدراك الذات وإِدراك صفاتها، وهذا يرجع إِلى تخليص الذات من غيرها، وتخليص صفاتها من صفات غيرها.
الفرق الرابع: أنك إِذا قلت: علمت زيدا لم تفد المخاطب شيئا، لأنّه ينتظر أن تخبره على أي حال علمته، فإِذا قلت: كريما أو شجاعا حصلت له الفائدة، وإِذا قلت: عرفت زيدا استفاد المخاطب أنك أثبتّه وميّزته عن غيره ولم يبق ينتظر شيئا آخر.
وهذا الفرق في التحقيق إِيضاح الذي قبله.
الفرق الخامس: أنّ المعرفة علم بعين الشيءِ مفصّلا عمّا سواه، بخلاف العلم فإِنه قد يتعلّق بالشيءِ مُجملا، فلا يتصوّر أن يعرف الله البتّة، ويستحيل هذا الباب بالكليّة؛ فإِن الله سبحانه لا يحاط به علما ولا معرفة ولا رؤية، فهو أكبر من ذلك وأعظم.
قال تعالى: {يعْلمُ ما بيْن أيْدِيهِمْ وما خلْفهُمْ ولا يُحِيطُون بِشيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ}.
والفرق بين العلم والمعرفة عند المحقِّقين أنّ المعرفة عندهم هي العلم الذي يقوم العالِم بموجبه ومقتضاه، فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده، بل لا يصفون بالمعرفة إِلاّ من كان عالِما بالله وبالطّريق الموصِّل إِليه وبآفاتها وقواطعها وله حال مع الله يشهد له بالمعرفة.
فالعارف عندهم من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثمّ صدق الله في معاملاته، ثمّ أخلص له في قصوده ونِيّاتِه، ثمّ انسلخ من أخلاقه الرّديئة وآفاته، ثمّ تطهّر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته، ثم صبر على أحكامه في نِعمه وبليّاته، ثمّ دعا إِلى الله على بصيرة بدينة وإِيمانه، ثم جرّد الدّعوة إِليه وحده بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يشُبْها بآراءِ الرِّجال وأذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقولاتهم، ولم يزِنْ بها ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الذي يستحقُّ اسم العارف على الحقيقة، وإِذا سمّى به غيره فعلى الدّعوى والاستعارة.
وقد تكلّموا في المعرفة بآثارها وشواهدها، فقال بعضهم: مِن أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته.
وقال أيضا: المعرفة توجب السكينة.
وقيل: علامتها أن يحس بقرب قلبه من الله فيجده قريبا منه.
وقال الشِّبلى: ليس لعارف علاقة، ولا لمحبّ شكوى، ولا لعبد دعْوى، ولا لخائف قرار، ولا لأحد من الله فِرار.
وهذا كلامٌ جيّد، فإِن المعرفة الصّحيحة تقطع من القلب العلائق كلّها، وتعلّقه بمعروفه فلا يبقى فيه علاقة لغيره، ولا يمرّ به العلائق إِلاّ وهى مجْتازة.
وقال أحمد بن عاصم: من كان بالله أعرف كان من الله أخوف.
ويدلّ على هذا قوله تعالى: {إِنّما يخْشى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلماءُ}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أعرفكم بالله وأشدّكم له خشْية».
وقال آخر: من عرف الله ضاقت عليه الأرضُ بسعتها؛ وقال غيره: من عرف الله اتّسع عليه كلُّ ضيق.
ولا تنا في بين هذين الكلامين فإِنّه يضيق عليه كلّ مكان لاتِّساعه فيه على شأْنه ومطلوبه، ويتّسع له ما ضاق على غيره لأنّه ليس فيه ولا هو مساكن له بقلبه، فقلبه غير محبوس فيه.
والأوّل في بداية المعرفة والثانى في غايتها التي يصل اليها العبد.
وقال: من عرف الله تعالى صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كلّ شيءٍ، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنِس بالله.
وقال غيره: من عرف الله قرّت عينه بالله وقرّت به كلُّ عين، ومن لم يعرف الله تقطّع قلبه على الدّنيا حسراتٍ، ومن عرف الله يلم يبق له رغبة فيما سواه.
وعلامة العارف أن يكون قلبه مرآة إِذا نظر فيها رأى فيها الغيْب الذي دعا إِلى الإِيمان به، فعلى قدْر جلاءِ تلك المرآة يتراءى فيها سبحانه والدّارُ الآخرة والجنّة والنار والملائكة والرُّسُل، كما قيل:
إِذا سكن الغديرُ على صفاءٍ ** فيُشْبه أن يحرّكه النسيمُ

بدتْ فيه السماءُ بلا مِراءٍ ** كذلك الشمسُ تبدووالنجومُ

كذلك قلوبُ أربابِ التجلِّى ** يُرى في صفْوِها الله العظيمُ

ومن علامات المعرفة أن يِبدو لك الشاهد وتفْنى الشّواهد، وتنجلى العلائق وتنقطع العوائق، وتجلس بين يدى الرّب، وتقوم وتضطجع على التأهب للقائه كما يجلس الذي قد شدّ أحماله وأزمع السفر على تأهب له ويقوم على ذلك ويضطجع عليه.
ومن علامات العارف أنه لا يطاِلب ولا يخاصِم ولا يعاقب ولا يرى له على أحد حقّا، ولا يأْسف على فائت ولا يفرح بآت لأنه ينظر في الأشياءِ الفناء والزّوال، وأنّها في الحقيقة كالظِّلال والخيال.
وقال الجنيد: لا يكون العارف عارفا حتىّ يكون كالأرض يطؤها البرّ والفاجر، وكالسّحاب يُظلّ كلّ شيءٍ، وكالمطر يسقى ما يحِبُّ وما لا يحبّ.
وقال يحيى بن مُعاذ: يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربّه.
وهذا من أحسن ما قيل، لأنّه يدلُّ على معرفته بنفسه وعلى معرفته بربّه وجماله وجلاله، فهو شديد الإِزراءِ على نفسه لِهجٌ بالثناءِ على ربّه.
وقال أبو يزيد: إِنّما نالوا المعرفة بتضييع ما لهُم، والوقوف مع ما له.
يريد تضييع حظوظهم والوقوف مع حقوق الله تعالى.
وقال آخر: لا يكون العارف عارفا حتى لو أُعطى مُلْك سليمان لم يشغله عن الله طرْفة عين.
وهذا يحتاج إِلى شرح، فإِنّ ما هو دون ذلك يشغل القلب، لكن إِذا كان اشتغاله بغير الله لله فذلك اشتغال بالله.
وقال ابن عطاء: المعرفة على ثلاثة أركان: الهيبة، والحياءُ، والأُنْس.
وقيل: العارف ابن وقته.
وهذا من أحسن الكلام وأخصره.
فهو مشغول بوظيفة وقته عمّا مضى وصار في العدم، وعمّا لم يدخل بعد في الوجود، فهمّه عمارة وقته الذي هو مادّة حياته الباقية.
ومن علاماته أنه مستوحش ممن يقطعه عنه.
ولهذا قيل: العارف من أنس بالله فأوحشه من الخلْق، وافتقر إِلى الله فأغناه عنهم، وذلّ لله فأعزّه فيهم، وتواضع لله فرفعه بينهم، واستغنى بالله فأحوجهم إِليه.
وقيل: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول.
يعنى أنّ العالِم علمُه أوسع من حاله وصفته، والعارف حاله وصفته فوق كلامه وخبره.
وقال أبو سليمان الدارانى: إِن الله يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلىِّ.
وقال ذو النون: لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله.
وقال بعضهم: رياءُ العارفين أفضل من إِخلاص المريدين. وهذا كلام ظاهره منكر ومحتاج إِلى شرح؛ فإِن العارف لا يرائى المخلوق طلبا لمنزلة في قلبه، وإِنما يكون ذلك منه نصيحة وإِرشادا وتعليما، فهو يدعو إِلى الله بعمله كما يدعو إِلى الله بقوله، وإِخلاصُ المريد مقصور على نفسه.
وقال ذو النون: الزُّهّاد ملوك الآخرة، وهم فُقراء العارفين. وسئل الجُنيد عن العارف فقال: لون الماءِ لون إِنائِه.
وهذه كلمة رمز بها إِلى حقيقة العبوديّة، وهو أنّه يتلوّن في أقسام العبوديّة، فبينا تراه مصلِّيا إِذْ رأيته ذاكرا أو قارئا أو متعلما أو معلِّما أو مجاهدا أو حاجّا أو مساعدا للضّيف أو معينا للملهوف، فيضرب في كلِّ غنيمة بسهم.
فهو مع المنتسبين منتسب، ومع المتعلِّمين متعلِّم، ومع الغُزاة غاز، ومع المصلِّين مصلٍّ، ومع المتصدِّقين متصدّق وهكذا ينتقل في منازل العبوديّة من عبوديّة إِلى عبوديّة، وهو مستقيم على معبود واحد لا ينتقل عنه إِلى غيره.
وقال يحيى بن مُعاذ: العارف كائن بائن.
وقد فسّر كلامه على وجوه: منها أنه كائن مع الخلْق بظاهره بائن عن نفسه.
ومنها أنّه كائِن مع أبناءِ الآخرة بائِن عن أبناءِ الدّنيا.
ومنها أنّه كائن مع الله بموافقته، بائن عن النّاسِ لمخالفته.
ومنها أنّه داخل في الأشياءِ خارج عنها، يعنى أن المريد لا يقدر على الدّخول فيها والعارف داخل فيها خارج منها.
وقال ذو النون رحمه الله: علامة العارف ثلاثة: لا يطفئُ نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطنا من العلم ينقض عليه ظاهرا من الحكم، ولا يحمله كثرة نعم الله على هتك أستار محارم الله.
وهذا أحسن ما قيل في المعرفة.
وقال: ليس بعارفٍ من وصف المعرفة عند أبناءِ الآخرة فكيف عند أبناءِ الدّنيا؟ يريد أنه ليس من المعرفة وصف المعرفة لغير أهلها سواءٌ كانوا عُبّادا أو من أبناءِ الدنيا.
وسئل ذو النون عن العارف فقال: كان هاهُنا فذهب.
فسئل الجنيد عن معناه فقال: لا يحصرُه حال عن حال، ولا يحجبه منزل عن التنقّل في المنازل، فهو مع أهل كل منزل على الذي هم فيه، يجد مثل الذي يجدون، وينطق بمعالمها ليتبلغوا.
وقال بعض السّلف: نوم العارف يقظة، وأنفاسه تسبيح، ونومه أفضل من صلاة الغافل.
إِنما كان نومه يقظة لأنّ قلبه حىّ فعيناه تنامان وروحه ساجدة تحت العرش بين يدىْ ربِّها؛ وإِنّما كان نومه أفضل من صلاة الغافل لأنّ بدنه في الصلاة واقف وقلبه يسْبح في حُشُوش الدنيا والأمانىِّ.
وقيل: مجالسة العارف تدعوك من ستٍّ إِلى ستّ: من الشك إِلى اليقين، ومن الرياءِ إِلى الإِخلاص، ومن الغفلة إِلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إِلى الرغبة في الآخرة، ومن الكِبْر إِلى التواضع، ومن سوءِ الطوِيّة إِلى النصيحة.
وللكلام في المعرفة تتمة نذكرها في محلّها في المقصد المشتمل على علوم الصوفية إِن شاء الله.
وتعارفوا: عرف بعضهم بعضا.
وعرّف: جعل له عرْفا أي ريحا طيبة.
قال تعالى: {ويُدْخِلُهُمُ الْجنّة عرّفها لهُمْ} أي طيّبها وزيّنها.
وقيل: عّرفها لهم من المعرفة أي وصفها وشوّقهم إِليها.
وعرفات: موقف الحاجّ في تاسع ذى الحِجّة ببطن نعْمان.
سميّت لأن آدم وحوّاء تعارفا بها، أو لقول جبريل عليه السلام لإِبراهيم عليه السلام لمّا أعلمه المناسك: أعرفْت، أو لأنها مقدّسة معظّمة كأنّها عُرّفت أي طيِّبت، أو لأن النّاس يتعارفون فيه، أو لتعرّف العباد إِلى الله تعالى بالعبادات والأدعية.
ويوم عرفة يوم الوقوف.
وهو اسم في لفظ الجمع فلا يجمع.
وهى معرفة وإِن كانت جمعا؛ لأن الأماكن لا تزول فصارت كالشيءِ الواحد، مصروفة لأنّ التاء بمنزلة الياء والواو في مسلمين ومسلمون، والنسبة إِليه عرفىّ.
والمعروف: اسم لكلّ فعل يُعرف بالشرع والعقل حُسنُه.
وقوله: {وللمُطلّقاتِ متاعٌ بِالْمعْرُوفِ} أي بالاقتصاد والإِحسان.
وقوله: {قول مّعْرُوفٌ ومغْفِرةٌ خيْرٌ مِّن صدقةٍ يتْبعُهآ أذى} أي ردّ جميل ودعاءٌ خير من صدقة هكذا.
والعُرْف: المعروف من الإِحسان.
وجاءت القطا عُرْفا أي متتابعة، قال تعالى: {والْمُرْسلاتِ عُرْفا}.
والعرّاف: الكاهن، غير أن العرّاف يخصّ بمن يخبر بالأحوال المستقبلة، والكاهن بالماضية.
والتعريف من يعرف الناس ويعرّفهم، وسيّد القوم.
والاعتراف: الإِقرار بالذنب، وأصله إِظهار معرفة الذّنب. اهـ.